النص لـ: زبيدة ربيع علي
حكايةُ أُم شرقية
لعينةٌ تلك الحرب التي سلبت منَّا جميع سعادتنا، تكبَّدت لنا بعناءٍ جسيم، أصبحنا بعدها
كئيبين أو اشدّ بؤساً، كانت أحلامنا تعانق السحب، إلى أن جاءت تلك الحروب الطاحنة... لمَ لا يستبدلونها بالسلم؟ ماذا يجدون فيها غير برك ممتلئة بالدم، جماجم مهشمة وجثث مفقودة الأطراف.
كان زوجي يعمل لدى الجيش، خاض كثير من المعارك، كان لا بدّ لي أن أضع
احتمالي وفاته في أي لحظة لكنِّي لم أفعل، وهنا جاءت الصدمة؛ لأنه كما هو معروف إذا لم تحتمل شيئاً صُدمت صدمة بالغة. عندما جاءني خبر وفاته وأنا التي كنت حبلى بابنه الأول وفي يوم سبت كانت حراراة الجو فيه تبلغ الثامنة والثلاثين درجة مئوية. في يومٍ مشؤوم؛ كرهت ذلك
اليوم بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
عندما جائني مجموعة من أصدقائه في الجيش عرفت وقتها أن أمراً ليس جيداً قد حدث، أخذوا يتهامسون في شيء لم أعرف ما فحواه، قلت لهم: "ما الأمر؟".. أخذ كل واحد منهم يقوم بدفع الآخر قائلاً "أخبرها أنت"... عرفت وقتها أنه
قد حدث أمر ما لزوجي. صرخت في وجههم: "ما الأمر؟" هلعوا لصراخي؛ تمتم أحدهم بكلمة وقال: "زوجك قد ذهب إلى جنان الخلد".
تلك اللحظة... أحسستُ بشيء ما بداخلي لم أحس به منذ فترة طويلة... منذ رحيل أمي لم يأتيني ذلك الاحساس. وما هي إلا دقائق حتى جثوت على
ركبتيّ، تنهمر مني الدموع كأنها شلال... قلت لهم بصوت متردد وكأن شخصاً آخر ممسك بحبالي الصوتية: "لمَ هو رحل؟ ألا يريد أن يرى ابنه الأول؟" انهرت كأنني لم أدرك ولم أعرف شيئاً عن هذه الدنيا، نظرت إلى صديقه المقرَّب الذي راحت عيناه تبرقان حتى خيّل لي أن وميض، أغمى
علي.
سرعان ما أودعوني إلى المشفى القريب بسبب أن تلك كانت انقباضات رحمي. وأنا في تلك الحالة كنت اسمع صوت الطبيب بعيداً، أفتح عين وأغلق الأخر، الصوت يقول: "نادوا الممرضات" ،استغرقت في النوم... فتحت عيناي على صوت طفل قد ملأ حنجرته صوت الأمل من جديد،
أخذته الممرضة وقربته من حضني... صرتُ أضحك بصوت يملأوه العويل.
أعطاني طفلي الحياة من جديد، أعطاني الأمل والتعلق بهذه الحياة التي أصبحت ساذجة بعد رحيل زوجي وأصبحت لا تعني لي شيئاً بعد رحيله. ضحكتُ في وجه صغيري وقلت في نفسي: "ما ذنبك إن كانت هذه الحياة
قاسية ولا تعطيك ما تريده، وأنا أمك، المرأة القوية التي تنهض من النار بقلنسوة حديدية قد انهارت تماماً، أعذرني ابني لأنني لم أؤمن لك مستقبلاً ولكن أعدك بأن أكون لك أماً وأباً بل أكثر من ذلك إن شئت" أخذتُ أتأمل في وجهه وقد أخذ كثيراُ من ملامح أبيه؛ كالشامات التي
تحتل مساحة كبيرة من وجهه تحت خدِّه الأيمن وأعلى مبسمه
30 September 2017
النص لـ: عثمان حسين اسماعيل
وحيدٌ أنا بين جدران غرفتي الأربعة ونافذتها العلوية التي تدخل أشعة الشمس من خلالها كل صباح ثم تفارقها على أمل العودة في الصباح القادم. لا شيء يشاطرني
وحدتي سوى محبرة وبقايا أوراق متناثرة هنا وهناك، لكن ثمَّ جرذ يتجسس عليّ كلما خرجت، أتسألوني كيف عرفت ذلك؟ يا سادة... لا توجد جريمة دون ترك آثار، فها هي ضحاياه الورقية قد مزقت شر تمزق، حتى أنني أكاد أجزم أنه قد اقترب ذات مرة من المحبرة ولكنه تقهقر ورجع بخفَّي
حنين، لماذا؟ لا أدري. إن الأشياء التي أحرص دوماً على أن تبقى دائماً مرتبة ومتئانسة سوى نفسي إنما هي المحبرة، أقلامها والدفاتر الورقية. ولكن لأكن صادقاً... هل حقاً هذه الأشياء تستحق أن تكون جزءاً لا يتجزأ منِّي؟ ربما لأنني حتى عندما كانت بطني تُغرِّد من الجوع
كانت محبرتي ممتلئة وبالقرب منها أطناناً من الأوراق.
أذكر ذلك اليوم جيداً عندما جئت ماراً بحارة "الإنقاذ" ذاهباً إلى حارتنا حارة "الحرب سلام" كنتُ أحمل معي دفاتري الستة، محبرة، قلم ولا شيء آخر. كنتُ أخطو ببطء وجسدي المتهالك يتهادى، لكنني على أي
حال ممسكٌ جيداً بببعضي. سألني صاحب المبنى: "من أين؟" قلتُ له: "من الزوايا التي يسكن فيها الشياطين والإنس"، قال: "ولكن غُرفُنا للإنس، وكما ترى حتى مكان قضاء الحاجة لا يوجد"، قلت: "ماذا؟" ولكني واصلت "لا بأس... وهل ترى مثلي له حاجة ليتركها... كم أجرة الغرفة؟"،
قال: "مائتان وستون جنيه"، صرخت: "ماذا؟ هل تظنها غرفة خمسة نجوم؟" قال: "انتظر لتسمع بقية كلامي"، قلت: "ماذا بعد كل هذا الذي سمعت!؟ ألك قول آخر؟"، أجاب: "نعم، الغرفة بها سرير واحد ومنضدة خشبية واحدة، حاول ألا تكسر شيئاً فلكل شيء ثمن هنا"، قلت: "حسناً... أوافق".
سلَّمته المبلغ، لكنه كان فضولياً، أراد أن يعرف حملي لما في يدي، قلت له: إنها مني وأنا منها، حياتي أحرص فيها على أن تكون من المحبرة إلى المقبرة. لاحظتُ أنني كلما اشتريت دفاتر جديدة كلما زدت عدسات نظارتي، وكلما قرأت كلما ابتعدت عن ضجيج البشر وصخبهم.
لنعد إلى ذلك الزائر المخفي الذي ما اكتشفته إلا عندما رأيت آثار أقدامه مصبوغة بالحبر إلى حيث يأوي كلما أحدث جريمته، لقد تجرأ اليوم على كسر حاجز الرهبة والخوف، قام بتحريك عمود المنضدة محدثاً جلبة أدت إلى انكسار المحبرة... وتدفُّق الحبر
30 September 2017
النص لـ: محمد شاع الدين مبارك
رشفةُ ماءٍ على صِراطِ الروحِ إذ تستفيض
إنَّ منطقة الواقع – كـفِكرة، بإسقاط الحيثيات واختيارها
– بما يسيرنا، الإنسانية النزقة، عاطفية النزعة، لوهلة... قد يبدو الأمر خروج جهنمي مكتمل الأركان ومستوفٍ نصاب الإلحاد – ظاهرياً، كـقولي حينئذٍ كلما رأيت أمي: أحقاً هذا الله منصف؟. بتلقائيةٍ أبصق ثلاث بصقات متجانسة التشبُّع، مزيجٍ ثخين من خليط اللعاب
المتعفِّن، الدم، النخامة الخضراء، القيِّح وكلّ ما هو مقزز.
إثر البصقة الأخيرة يعود إليّ بعضاً من وعيي وعقلي فأضطر للعن الشيطان – اللعين أصلاً، تحن مني التفاتة نحو الجنوب، يلوِّح لي في الأفق القريب وميض الثغر ناصع السريرة... أعلم أنها راضية،
لا شيء بمقدوري فعله وأنا مبتور القدم اليُسرى مُستأصل الكف الأيسر، لا شيء بمقدوري فعله... لا شيء.
كانت أمي تواً قد فرغت من تسعير موقد الحطب، لا يمكنني وصف هذه الحال – أبداً، إنها تصنع لنا حساء الدجاج اللعين، إنه يسدّ الرمق ليس إلا، تأخذ اللحم
وتبيعه في تجارة خاسرة لا تدر سوى جنيهات بضعة، تشتري لنا بها الخبز وبعض الحاجات التافهة، إنَّ فكرة الهواء إلى الحضيض فجأة هو ما لن أستوعبه – البتة. بالأمس كان عندي كلّ شيء: سبعة اخوان، أب وجد، الآن... نحن الثلاثة فقط: أنا، أمي وأختي، نتشارك براحاً ضيقاً
ليس متسعاً للتنفس.
الحرب لعنة، وألعن منها من استنَّ بها، كان كلّ شيء خاطفاً، كلّ ما أذكره أنني لمّا استيقظت وتفاجأتُ بكمِّ التغيير الذي طرأ بغتةً على تكويني الجسدي، وددتني لو أستطيع النظر إلى داخلي الكئيب وكهوف التوهان فيه من خارجي، من علو رأسي
المزيَّن بعينين، أنف مشروخة وشفة. تفوَّهتُ ساخطاً بأصواتٍ لا تنتمي إلى منظومة أصوات الآدميون، أناخ العياء قافلة رأسي الفوضوي وعبأتني الأفكار... أناخها على كتف وسادة من صفق الأشجار وثمرة القطن الكاذب.
وأنا أغفو - غفوتي الأبدية، كانت أمي –
المعتلَّة أصلاً – تُمارضُ شقيقتي الصغرى، كان الله حاضراً وشاهداً، كانت تُزيل بعض النُخامة المتكلِّسة على منخار شقيقتي. الماء عصب الحياة... جوَّالَي الماء العفن البنِّي، كان ممكناً لو مججتها واستسغتها؛ كان يمكن أن أكون حياً... حياً أزيل عن أمي وعثاء الظروف،
المرض، الجوع والحرب.
الماءُ إكسيرُ الأبدية، قطرة منه لربَّما ردَّتني كما الأحياء: أتوكأ قدمين، أمتطي جسد. كانت أمي منهمكة في شغلها: أنف أختي، لدرجة أنها لم تسمع نداء استغاثتي مهتوك حبال الصوت الذي تحشرج وأنا أطلُّ من علو عينيّ إلى داخلها، إلى داخلي
أنا، البئر... وشهق الموت منتصراً
30 September 2017
النص لـ: نسيبة إبراهيم أبا
رُغم الرفاهية التي أتمتع بها في مدينتي وكل سبل الراحة، لا زلت أحن لأيامي في القرية ودكان جدِّي العتيق بالقرب من السوق الصغير. قررت وأنا أستكمل اخر
اوراق بحث تخرجي أنّ أول ما سأفعله بعد تسليم البحث هو السفر شرقاً إلى قريتي، مضت أربع سنوات منذ آخر مرة زرتُ فيها القرية، فبعد وفاة والدي سافرت بنا أمي إلى العاصمة واصبحنا نزور القرية في العطلات. لكن منذ دخولي الجامعة لم أستطع زيارتها: قريتي.
جلستُ
مساء احدى الليالي المقمرة في فناء منزلي وأنا أذكر: ليالي القرية، الضحكات النقية الصادقة مع رفاق الصبا، حكاوينا عن أحداث النهار وبعض البوح الخاص عن حبيبات الرفاق. أذكرُ استيقاظي باكراً للذهاب إلى "كرجاكة" القرية وجلب المياه على ظهر حمارة جدِّي الودودة، و "صفيحة"
المياه ثم ولوج السوق العتيق: "حاج الطيب" في ملحمته ساخطاً على قطة بالجوار، "عمر أوهاج" ف دكانه مبتسماً وهو يصبّ الزيت في قارورة "بيبسي" فارغة ويناولها لاحدى حسناوات الحي مع بعض الفكة والكثير من الغزل الهامس، "حاجة آمنة" تجلس وأمامها قطعة من الخشب وضعت عليها
علبتين كانتا في الأصل لحلاوة "ماكينتوش" لكنها احتفظت بهما وصارت تضع فيهما الشطة المجففة و "الويكة"، و"عباس الترزي" يخيط "سديري" لابن حليمة بنت عمتي والذي سيكون ختانه يوم الجمعة، "عوضية" تساعد زوجها في بيع الخضار وتسرق جزءاً من المال عند انشغال زوجها مع احد
الزبائن، ثم جدِّي وبعض شباب القرية يتجاذبون أطراف الحديث عمَّا يدور حولهم.
نمتُ في الفناء تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي نمتُ في الباص المتجه إلى قريتي، كنتُ متشوقاً للوصول، لم أخبر أحد بقدومي. عندما وصلتُ قريتي أُصبتُ بصدمةٍ قاسية؛ فقد تغيَّرت
ملامح القرية وأصبحت شاحبة... تماماً. علمتُ أن أصدقاء الصبا معظمهم قد هجروا القرية إلى المدن الكبيرة المجاورة، وأنَّ السوق العتيق قد هجره أصحابه لأنَّ الحكومة قد قامت ببناء واحداً غيره وأجبرتهم على البيع فيه. ذهبتُ مع جدِّي صباحاً إلى دكانه القديم ليُخرِج بعض
الأشياء ويعيد إغلاقه مجدداً... هالني منظر السوق، آلمتني تلك الذكريات التي أتيتُ بحثاً عنها ولم أجدها
30 September 2017
النص لـ: أمين بابكر علي
حويج
تحت جنح الليل تحمله بحثاً عن مأوى وبعيداً عن أعين الكلاب والشماسة – هكذا هي تدعوهم وتنسى أنها
أصبحت فرداً منهم حينما فرَّت مع زوجها إلى المدينة الكبيرة من طرف البلاد؛ نتيجة اشتداد اوار الحرب القبلية هناك. استيقظت فجأة عند صباح ولم تجده بجانبها... فقط فضاء شاسع وحرارة مرتفعة لأيام شهر مايو. واصلت مسيرتها حاملة ما خفَّ من ثيابها البالية التي ورثتها عن
والدتها.
"سُليمى" اسمها، تذكُر جيِّداً كيف كانت تعيش وسط اخوتها الثلاث ووالدتها، تحتويهم خيمة بالكاد تحجب أشعة الشمس الحارقة، وفي أسلوب حياة هادئة يتوفر فيها المأكل، المشرب والمداواة البلدية. تذكُر ارتباطها بزوجها "فريد" الذي التقت به عند ذهابها
لجلب الماء، أعجبته: عيناها عسلية اللون، لون بشرتها القمحي، أنفها القصير الذي تتدلى منه حلقة ذهبية، طول قامتها المتوسط وجسمها الرشيق. كانت تحب فيه شعره الخشن، ملامحه الفتيَّة، عيننان تغوصان عميقاً وشاربه الأغبر إثر عمله في الرعي. كانا يقضيان جلّ وقتهما خلف
الصخرة الكبيرة يُطلقان التأوهات، أخبرته بعد أشهر أنها تحمل ثمرته في أحشائها وتخاف أن يبلغ ذلك أخوتها، تقدّم لطلب الزواج منها وحاذت عليه كما تمنَّت.
استيقظت صباحاً وسط صراخ الجميع إثر ذلك الهجوم الذي قامت به احدى القبائل الباحثة عن مواقع لها في
الكلأ لحيواناتها، بحثت عيناها بذعر حولها عن والدتها واخوتها... لم تعثر لهم على أثر، ولم يفت عليها الجثث المتضرجة بالدماء حولها وقد طمست الأتربة ملامحها. لم تشعر إلا ويد "فريد" تجذبها وفي يده الأخرى كومة من ملابسها، ركضا بعيداً بكلِّ قوتهما غي اتجاه الشمال...
توقفا عن الركض بعد أن أحسَّا بالتعب، اختبئا وراء شجرة شوكية مرهفين السمع لعدم وجود أي أرجل أو خيول تتبعهما، لا مأكل ولا مشرب أمامهما في هذه الصحراء القاحلة... هبط المساء فجأة وأغمضت عينيها رغم الجوع الذي يعتريهما.
فتحت عينيها ولم تجده بقربها، نادت
عليه بأعلى صوتها ولم تجد غير صدى صوتها، كانت تصرخ وبخوف من أن يحدها أحد القتلة... واصلت مسيرتها راجلة، تأكل كل ما ثقع عليه عيناها في الطريق. لا تدري كم سارت من أيام وليال، مرَّت بقربها عربة "بوكس" كبيرة توقفت وترجَّل عنها رجل ستِّينيّ تخفي قبعته الحمراء عينيه،
ساعدها في الجلوس بالمقعد المجاور لمقعده. داهمتها آلام المخاض، بدأت تصرخ بأعلى صوتها، ذُعرالسائق وألقاها على الطريق الرئيسي فأغمي عليها. التقطها المارة وأسرعوا بها نحو المركز الصحي الآيل للسقوط بألوان جدرانه الباهتة التي تدلّ على أن الطلاء كان من فعل المستعمر.
أفاقت وبالقرب منها طفل صغير، ترمقها الأعين بنظرات شفقة وسخرية في آنٍ واحد؛ إذ ليس بجانبها أحد ليحتفل معها بقدوم المولود. الممرضة الحزينة لحالها دسَّت في يدها بضع فئات من الجنيهات. حملت مولودها خارج المبنى، قررت أن تطلق عليه اسم "حويج"؛ هو ما حكته والدتها
لها عن جدها بذات الاسم وكيف أنه كان يرعى قبيلتها ويحميها، إلى أن سقط متعثراً فوق صخرة من على ظهر خيله صادماً رأسه بها سابحاً في دمائه، كما أفاد بعض أفراد القبيلة أو كما تظن والتها أنهم اتفقوا على القضاء عليه بعد رشوتهم بعدد من الأغنام من احدى القبائل المعادية.
الآن هي تبحث عن مأوى منذ أشهر ولم تجد، طرقت جميع الأبواب لكن كانت تُفتح وتُغلق في وجهها سريعاً. كبر "حويج" وأصبح ينطق بعض الكلمات، تعيش على ما تجود به أقرب أماكن القمامة... هكذا تقضي صباحها إلى منتصف الظهيرة وسطوع الشمس الحارقة، تُطلق ساقيها للريح حاملة
ابنها بمجرد رؤيتها لتلك العربة الكبيرة التي يقبضون ويرفعون إليها كل من صادفته أعينهم من نسوة مثلها، أطفال ورجال وكل من في ثيابٍ مهلهلة، والرافعون يستخدمون العصا في اخضاع واسكات أصواتهم وتدافعهم داخل العربة إثر ازدحامهم فيها أحياناً. تنظر إليهم بشفقة من بعيد
وهم يحُملون على ظهر العربة... تعود لمواصلة سعيها وبحثها عن صباح جديد عسى أن تجد "فريد" ليجلسا تحت الخيمة - وليست الصخرة، مطلقين الآهات ومداعبين لأيدي صغيرهما "حويج" الذي لم يشهد ذلك العهد الذي بدأ فيه في التخلُّق داخل أحشائها
28 October 2017
النص لـ: منير محمد عبد الله
بعد يوم جهيد وأنا أعتصر قلمي في كتابة روايتي، وهو يئنّ من طول الضغط عليه لأيام لكي تخرج روايتي، كي تشفي غليلي وترضي من يقرأها. بالرغم من تذمُّره أتى الليل وأنا أضغط عليه حتى إن أظلمت يوجد عندي مصباح يعمل بحجرة البطارية، هو يمتعض منها ومن وجودها في المنضدة، كذلك الأحبار. أتخيله يُحدِّث نفسه: "ليتكم لستم بهذا الوجود؛ كنت لأرتاح من هذا الضغط"، كم تمنيتُ أن أنام ليرتاح هو من عناد الضغط عليه... حتى أني صرتُ أسمع شكواه المستمرّة منذ أن بدأتُ في كتابة القصص القصيرة وهو يُحبِّذ أن يكون في إجازة، أو أن يحلّ مكانه قلم آخر - رغم أنِّي لا أحب الكتابة إلا به ليس إلا. منذ فترة قريبة مرضتُ مرضاً شديداً لمدةٍ ليست بالقصيرة، استوحش القلم العودة إلى يدي والكتابة به، ومن ثمّ أصبح وفياً وملازماً لي، يفرح متى استعنتُ به في الكتابة، ومن يومها صرنا أصدقاء لا نفارق بعضنا حتى ولو بالاحساس
28 October 2017
النص لـ: إيثار يوسف
حمَّامٌ صباحيّ
حينما كنتُ في الخامسة من عمري تمَّ نقل أبي لوظيفة جديدة، فإنتقلنا معه لقريةٍ طرفيةٍ بعيدة،
كانت معاناتنا اليومية لا تُوصف، وأمي – ابنة المدن، أراها تبكي كلّ يوم أثناء مهامها الصباحية. كان "بابور" المياه الوحيد في القرية يوجد على بعد أميال من مكان سكننا، فكانت أمي تضطر لحملي طول الطريق على ظهرها حيناً وعلى جنبها حيناً أخرى، بينما تحمل صفائح
الماء الخالية في رحلة الذهاب والممتلئة حد التدفُّق في رحلة الإياب. لم أكن أشعر سوى بمعاناتها وأوجاعها وتكدُّرها حد البكاء، مما ينعكس على مزاجي بقية اليوم، فأظلُّ في صراخٍ، ضجيجٍ وصخبٍ لا ينتهي، حتى تلقمني علقة ساخنة فأضطر مُجبَرة على السكوت عن صراخي.
أذكرُ أنَّه في أحد ايام الجمع وقد خلا "الدونكي" من رواده الدائمون إلا منِّي، أمي والصفائح الفارغة، أجلستني أمي على مقربةٍ منها وجلست تغسل ضفائري وتُحمِّم وجهي الأشعث، كان الجوّ بارداً في بدايات شهر يناير والرياح تُصدر صوتاً مرعباً، وأوراق الأشجار تتساقط
على وجهي المُبتل. أذكرُ جيِّداً صوت نهيق حمار متقطِّع تأتي به الريح، ثمَّ أنَّني في غمرة ذاكرة صغيرة مُشوَّشة... أرى وجوه رجال غريبوا الهيئة يحملون أسلحة وبنادق تشبه ألعابي السابقة حينما كُنَّا في المدينة البعيدة.
أنا الآن ابنة العشرون، كلّ حياتي
تدور في فلك أوعية المياه المجلوبة من "الدونكي"، وفي ذاكرة مُشوَّشة ببقايا وجه أُمٍّ باكيةٍ، ورجال مُلثمون بأسلحة غريبة: يمتطون سيارات دفع رباعي ذوات الأبخرة المتصاعدة. أنا الآن لا شيء... محض حمَّامٍ صباحيّ في يومٍ باردٍ وذاكرة مثقوبة
28 October 2017
النص لـ: عبد المعز كمال
حياة رجل بائس
كان هناك رجل يعيش في بيت فقير يبدو في حال سيء جداً؛ حيث انتشرت فيه العناكب والفئران، كان
سكان القرية يتجنبون هذا الرجل، بل ويتجنبون حتى المرور من جانب منزله، مما جعله يشعر أنه هو نفسه سبب معاناته ومشاكله. بالرغم من فقره قرر الرجل الذهاب إلى ساحر علَّه يجد له حلاً لفقره. بالفعل ذهب الرجل إلى ساحر وأخبره عن حاله، شعر الساحر بالأسف إلى حال الرجل
وقدَّم له مزهرية سحرية وقال له: "هذه المزهرية سوف تُخلصك من فقرك للأبد".
أخذ الرجل الفقير المزهرية وذهب إلى منزله، وضع المزهرية على الطاولة وراح يُفكِّر ويتأمل: "هل أبيعها وأستفيد من ثمنها؟ كما أنها في غاية الجمال ولا تصلح أن تكون في منزل كهذا!"،
تردّد الرجل كثيراً في بيع المزهرية... كلما نظر سراً إليها أُعجب بها أكثر فقرر الاحتفاظ بها. أخذ الرجل يفكر في أن مزهرية بهذا الجمال لا يجب أن تبقى فارغة، ذهب وأحضر بعض الأزهار ووضعها فيها... فازدادت جمالاً في في عينيه. بعدها قرر أن مثل هذا الجمال لا يجب أن
يكون في منزل مليء بالعناكب والفئران، بدأ على الفور في تنظيف المنزل فتحول إلى مكانٍ جميل ممتليء بالدفء... الرجل الفقير لم يعد فقيراً. في النهاية بعض الأشخاص لا يعملون ويبذلون الجهد المطلوب لتغيير حياتهم، حتى أنهم لا يقومون بإستغلال الوقت للتفكير في الطرق الممكنة
لتغيير حياتهم... كل ما يقومون به هو التذمّر والشكوى
28 October 2017